لاحظت منذ أن بدأت العمل في المملكة العربية السعودية، مدى اعتزاز الشعب السعودي بنخيل التمر التي تعتبر رمزًا وطنيًا في هذا البلد الكريم. وهو أمر منطقي جدًا حيث تنتج المملكة 1,5 مليون طن من التمور سنويًا - أي ما يقرب من 20 في المئة من التمور التي يتم إنتاجها عالميًا - بقيمة إجمالية تزيد على 7,5 مليارات ريال سعودي (حوالي 2 مليار دولار أمريكي). كما لمست هذا الاعتزاز أيضًا في الحرص الذي يوليه أغلب السعوديين في مشاركة كل ما يعرفونه عن التمور من تسمية أنواعها المختلفة، إلى تحديد المناطق المختلفة التي تأتي منها، وكيفية زراعتها وحصادها، وهو ما جعل جذور هذه الثمرة المغذية واللذيذة راسخة في قلب العادات السعودية.
ومع ذلك، تعاني أشجار النخيل في المملكة العربية السعودية من تهديد قائم متمثل في سوسة النخيل الحمراء. وهي آفة قاتلة تغزو هذه المنطقة، وتقتل هذه الأشجار. وسوسة النخيل الحمراء هي نوع من الخنافس التي تشق طريقها إلى جذوع النخل، حيث تضع بيضها بداخله، وتعيش وتلتهم النخلة من الداخل. وتقدر الخسائر التي تحدثها هذه الحشرة على تجارة التمور في المملكة بقيمة تسعة ملايين دولار كل عام، ويتضاعف هذا المبلغ إذا ما أخذنا في الاعتبار مجموع الخسائر في جميع أنحاء المنطقة ودول الجوار. لذا توجد حاجة ماسة لتطوير حلول ناجعة وطرح إجراءات منسقة لمكافحة هذه الآفة قبل أن تقضي تمامًا على هذا المحصول القيّم.
عجوة المدينة المنورة هي من أفضل أنواع التمور عندي. وعلى الرغم من كوني عالم، إلا أنني أجد صعوبة في تمييز الفرق بين الخلاص والسُكّري. ولكن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة لعلماء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) الذين يعملون على قدم وساق في أبحاث رائدة هدفها حماية أشجار نخيل التمر في المملكة العربية السعودية. وأحد الحلول المبتكرة التي طورها باحثونا بهذا الصدد هو جهاز استشعار صوتي من الألياف البصرية يعد الأول من نوعه الذي يُستخدم في الكشف المبكر عن سوسة النخيل الحمراء داخل النخلة. يستطيع هذا المستشعر الصوتي التقاط حتى أدق الأصوات الناتجة عن تغذية اليرقات ونشاطها داخل جذع النخلة منذ بداية تفشي الآفة. كما يستخدم الجهاز خوارزميات تعليم الآلة لتحليل الإشارات وتحديد حالة الإصابة لكل نخلة لتمكين المزارعين من التدخل المبكر، والذي يكون عادة بحقن الأشجار المصابة بالمبيدات الحشرية لقتل اليرقات والخنافس.
ويقود هذا المشروع البحثي الواعد فريق البروفيسور بون أوي في كاوست، وهو من رواد علماء العالم في مجال التقنيات الضوئية لأشباه الموصلات وأجهزة الاستشعار البصرية. ويعمل الفريق الآن مع مؤسسات متعددة في المملكة، بما في ذلك وزارة البيئة والمياه والزراعة ونيوم والهيئة الملكية لمحافظة العلا وشركة تبوك الزراعية، لنشر تقنيات الكشف المبكر عن سوسة النخيل الحمراء في المواقع الزراعية والمزارع في جميع أنحاء البلاد.
وبالمقارنة مع طرق المكافحة الأخرى لهذه الآفة، والتي تكون عادة مكلفة جدًا وغير مجدية، تتميز هذه التقنية التي تطورها كاوست بانخفاض تكلفتها وموثوقيتها وقابليتها للتوسع بسهولة، مع القدرة على مراقبة آلاف الأشجار لكل عملية مسح، الأمر الذي يسرع من تحديد أشجار النخيل المصابة؛ ومن ثم السيطرة على انتشار هذه الخنافس وحماية مزارع النخيل من التلف.
تم نشر نتائج هذه التقنية المبتكرة في مجلة التقارير العلمية (Scientific Reports)، وهي واحدة من منشورات مجموعة نيتشر للنشر المتميزة، كما حصل أعضاء فريق كاوست والمتعاونين معهم في هذا المشروع البحثي من مركز النخيل والتمور التابع لوزارة البيئة والزراعة والمياه على جائزة التميز الدولية للتقنيات المبتكرة لنخيل التمر 2022 من المركز الوطني للنخيل والتمور في الرياض، وجائزة خليفة الدولية لنخيل التمر 2023 من حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة.
أشعر باعتزاز عميق عندما أرى أبحاثنا في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تُترجم إلى أعمال تعاونية مؤثرة تساهم في حفظ التاريخ وحماية هذا المورد الطبيعي والرمز الوطني الأصيل.
إرسال تعليق